AddThis

Bookmark and Share

Thursday, May 20, 2010

صـدام ..بقلم احد اصدقائه القدامى-

صـدام ..بقلم احد اصدقائه القدامى- أبراهيم الزبيدي
12/30/2006

حتى الآن لا يعرف الكثير عن شخصية الرئيس صدام حسين في طفولته وصباه، فمعظم الذين رافقوه وعرفوه عن قرب في تلك الفترة ماتوا مبكراً ميتات غير طبيعية (حوادث سيارات، قتل غامض)، ولم يبق غير اثنين او ثلاثة كانوا قد غادروا العراق وعاشوا في الخارج منذ السنوات الاولى لوصول صدام الى السلطة عام .1968 ومن هؤلاء الاعلامي والشاعر العراقي اaلمعروف ابراهيم الزبيدي الذي عمل في اذاعة وتلفزيون بغداد منذ الخمسينات. وهو كان زميلاً لصدام حسين في مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية في تكريت وبغداد وصديقاً شخصياً له ولابن خاله، عدنان خير الله طلفاح الذي كان وزيراً للدفاع ومات في حادث تحطم هليكوبتر في الثمانينات.
هنا بعض من شهادات الأستاذ " الزبيدي "

مدينــة منسيــة



نادرا ما كان أسم تكريت يذكر في صحيفة أو إذاعة، هنا أو هناك. فهو لم يكن يرد إلا حين يُذكر صلاح الدين الأيوبي ومكان ولادته بالصدفة فيها، أو حين تروى أبيات شعرية لأبي نواس يمتدح فيها تكريت بجودة خمورها أيام العباسيين. تكريت ليست سوى مدينة صغيرة فقيرة مهملة لا يميزها شيء عن باقي مدن العراق، خصوصا في زمن الفقر والجهل والتخلف الذي خيم لا على العراق وحده بل على الكثير من دول الجوار والمنطقة.




لم يكن يوجد في تكريت، الى أن غادرتها في أوائل الستينات، مطعم من أي نوع أو من أي حجم، لأن بيع الطعام لمن لا منزل له في المدينة نقيصة. ومن يزور المدينة، من غير أهلها هو ضيف عليها. وبالتالي فمن العيب أن يباع له الطعام. ونفس الشيء ينطبق على الفنادق. هذا بالإضافة الى أن أحدا لم يكن ليزورها إلا قاصدا، وإلا إذا كان له فيها مضيف من الأقارب أو الأصدقاء.


لم يكن فيها شارع كما تعرف الشوارع الآن، فأغلبها درابين، أي أزقة ضيقة الى حد أن حمارا يحمل كيساً ـ مثلا ـ يتوقف خط سيره عند وصوله الى مدخل أحد تلك الأزقة، فيحمل صاحب الحمار الحمولة عن حماره ليوصلها الى أصحابها.




المنازل متلاصقة متشابهة في أغلبها وبسيطة. غرفة واحدة لكل الأغراض، وحوش واحد، وتنور وحمام عربي وأحيانا مرحاض عربي. كانت عشائر تكريت قليلة وتعد على أصابع اليد الواحدة. وشيوخ تلك القبائل هم أقرب الى عمداء الأُسَر منهم الى الشيوخ. فلم يكن هناك فرق ملحوظ بين العميد وبين أبناء عشيرته الآخرين، لا في لبسه ولا أكله ولا حتى في السلوك. فلم تعرف تكريت الإقطاع مطلقا كما هو في الجنوب أو الوسط. فحين نسمع أو نقرأ شيئا عن الإقطاعيين نكون كمن يقرأ شيئا عن عالم غريب لا يعرفه، ذلك لأن الشيخ التكريتي الذي يملك أرضا زراعية أو أغناما أكثر من حاجته يعمد الى تشغيل أقاربه فيها من أبناء عمومته، ويتقاسم معهم المردود، كل حسب حاجته. وليس في تكريت من هؤلاء الملاكين سوى أبناء عشيرتين، هما الشيايشة، وعميدهم عزاوي العلي، عم صلاح عمر العلي، الوزير السابق والمعارض الحالي، والبو حجي شهاب، وعميدهم شريف الحاج شهاب، شقيق حماد شهاب وزير الدفاع الأسبق (قتل عام 1973). أما باقي العشائر الأخرى كالبو خشمان والحديثيين والبو ناصر، ومنهم (أهل العوجا) فلم تكن تملك أراضي ولا مزارع ولا مواشي. وبحكم تلك التركيبة الاجتماعية لسكان تكريت أصبح الجميع أقارب الجميع. فقد تداخلت الأسَر ببعضها بالتزاوج، بشكل واسع وفريد. فلا تجد أحدا غريبا عن أحد، عدا أهل العوجا من (البو ناصر). فهم الوحيدون الذي لم يختلطوا بالتكارتة. فقد كانوا أقلية منطوية على نفسها، لا تجد من يزوَّجَهم أو يتزوج منهم. يقطن الشيايشة في القسم الشمالي من تكريت، والبو حجي شهاب في غرب المدينة، والبو خشمان في شرقها المسمى بـ (القلعة). أما البو ناصر الذين يطلقون على أنفسهم لقب (البيكَات)، جمع بيك، فتقطن قلةٌ قليلة منهم في جنوب المدينة، ويسمى بـ (الحارّة) أي الساخنة، ويقطن الباقون منهم في قرية العوجا.

العوجا

* يقال إن (عْمَرْ بيك) ـ نزح مع أولاده الى تكريت من جنوب العراق، قبل مائة سنة أو أكثر بقليل. ولا يعرف بالضبط من أي المدن أو القرى في الجنوب، ولا أحد يستطيع القطع بنسبه أو أصل تسميته لنفسه بيك. وفيما بعد، وبعد أن تسلموا السلطة في العراق زعم خير الله طلفاح (خال صدام حسين)، أن نسبهم يتصل بآل البيت. ولكن دون دليل قاطع سوى روايات وشهادات رجال دين من النجف وكربلاء قد يكونون مضطرين أو مجبرين على إصدارها. ولأن أهالي تكريت في أغلبهم مسالمون وهادئون ومتدينون، فقد كرهوا النازحين الجدد، وهم يرونهم يسيرون مسلحين بخناجر ومكَاوير و(المكَوار عصا متينة طولها نصف متر أو أقصر، يكون أحد طرفيها مكللا بكرةٍ من القار الصلب، لتصبح سلاحا كافيا لفج رأس الخصم عند القتال). هذا بالإضافة الى طبعهم الذي لم يألفه التكارتة ولم يحبوه، فهم مطبوعون بالعنف وقلة التهذيب والخشونة في التعامل مع الآخرين والتسلط والابتزاز والسرقة والسطو، كما عرفوا بقلة تدينهم أو ندرته. فلا يشاهد أحد منهم في مسجد ولا في مجلس عزاء. لكل هذه الأسباب قاطعهم التكارتة وعزلوهم بشكل تام، فلا أحد يجالسهم في مقهى، ولا أحد يدعوهم الى داره أو يزورهم، وفرضوا عليهم مقاطعة اقتصادية شبه كاملة، ولكن غير معلنة، إزاء ذلك وجد (عمر بيك) نفسه مضطرا لأن يأخذ عائلته وأولاده ونساءهم وأبناءهم الى خارج المدينة، وبالتحديد الى جنوبها، بمسافة أحد عشر كيلومترا، ليبني دورا من الطين على ضفة النهر، ويزرع بعض الخضراوات، ويربي بعض الأغنام، ردا على حصار التكارتة. ثم وبعد سنين من العزلة تمكن بعض أبنائه وأحفاده من استرضاء بعض التكارتة، فاصبحوا يبيعون في تكريت ما يزرعونه في (العوجا). جاءت كلمة العوجا للدلالة على أصحاب الخلق الأعوج أو الفعلة العوجاء. فحين تسأل: من أين اشتريت هذا? يقال لك: من أهل العوجا، أو: أين المكان الفلاني? يقال: قبل العوجا بكذا أو بعد أهل العوجا بكذا. ومع مرور الزمن أصبح الاسم المتداول الذي يطلق على تلك البيوت القليلة الطينية المتناثرة هو العوجا. وقد ثبت أن أبناء العوجا يعانون من هذه العقدة الى اليوم ويحقدون بسببها على التكارتة. وبسبب فقرهم المدقع وقلة المتعلمين منهم، بل ندرتهم، بالمقارنة مع التكارتة، فإن أهل العوجا لم يتخلوا عن كره التكارتة والحقد عليهم أبدا. ولدى أهل العوجا، الى الآن، عدم احترام عميق واحتقار متأصل للمتعلم، إذ إنهم يعتبرونه مخنثا أو ناقص رجولة.


* دجاجة عمتي
* في أواخر الأربعينات أو أوائل الخمسينات، لا أذكر على وجه الدقة متى وكيف، تعرفت على عدنان خير الله طلفاح، ثم على صدام حسين الذي يكبرنا بأربع سنوات. أما أين فأذكره بوضوح. كانت لي عمةٌ اسمها (مدينة) تسكن في حي (الحارة) الذي يقطنه أهل العوجا. وكنا نلعب في فناء دارها. عدنان وأخته ساجدة (زوجة صدام الاولى) وأنا، بحضور أمهما (ليلو) مطلقة خير الله التي كانت تمضي معظم وقتها الطويل مع عمتي البسيطة المتدينة وأحاديثها الدافئة التي ُتسرّي عنها وتبعد الألم والفراغ. وكان أهل العوجا، على خشونتهم وعدوانيتهم، يحبون عمتي ويقبلون شتائمها، ويأنسون إليها، ويقومون بكل ما تطلبه منهم من خدمات، وهم الفرحون والمبتشرون. كانت عمتي أرملة تعيش وحدها في منزل واسع بسيط أغلب جدرانه مهدم أو مائل أو واقف على أمل السقوط. ليس لها أبناء وترفض بكبرياء أية مساعدة من أحد، حتى من أخيها (والدي) أو أختها. تفتق ذهنها عن وسيلة للعيش تغنيها عن ذل السؤال. فاقتنت عددا من الدجاجات من النوع المعروف ببيضه الكبير، لتبيعه وتنفق من ثمنه على متطلبات عيشها القليلة الزهيدة. ثم تآلفت مع دجاجاتها. كانت لا تتأخر، حين تزورنا، خوفا على دجاجاتها من خطر السرقة أو الجوع أو العطش. وحين كانت تعود من زيارتنا تجري عملية حصر وتعداد وجرد دقيقة. ذات يوم عادت من إحدى زياراتها. وحين قامت بتعداد دجاجاتها وجدت أن واحدة منها مفقودة. أعادت العد والحساب مرة ومرتين دون جدوى. وفجأة خطرت لها خاطرة. كانت الدار التي تلاصق دارها هي دار إبراهيم العبد زوج ليلى الطلفاح (احدى خالات صدام)، وكان يعمل شرطيا في تلك الأيام، قبل أن ينتقل الى جوار منزلنا في حي (القلعة). أطلت عمتي من فوق الحائط المتهدم الذي يفصل بين داريهما فرأت قِدرا موضوعا على النار، وليلى وإبراهيم يحيطان به. خرجت على الفور من منزلها ودخلت منزلهما، وحملت القدر من على النار وعادت به، وهما يراقبان بصمت. فهما يعرفان وهي تعرف أن ما في القدر هو الدجاجة المفقودة. أكملت عمتي طبخها وقسمتها نصفين، ونادت على ابراهيم العبد أعطته نصفا وهي تقول: كلا منه بالحلال. لكنها لم تسلمه نصف الدجاجة إلا بعد أن أقسم لها على عدم الغدر والخيانة، وعلى ألا يمد يده الى دجاجاتها بالحرام مرة أخرى.

صيد السمك بالقنابل
* ولكثرة ما كنت أتردد على منزل خيرالله طلفاح وما تسببه ثرثراتنا، نحن الثلاثة، من إزعاج لأهل الدار، فقد اقترح عدنان أن نبني غرفة لنا في باحة المنزل الواسعة. وقبل اقتراحه على الفور بشرط أن نقوم نحن ببنائها وبأقل التكاليف. كنا، صدام وأنا، البناءين، نقف على أعلى الجدار نتلقى من عدنان ومن ساجدة الطين والِلبِن (الآجر الطيني المجفف). وحين كبرنا قليلا صرنا نسافر معا الى قرية العوجا مرة كل أسبوع لزيارة صبحة والدة صدام، بزورق صغير ينساب في الذهاب مع مجرى نهر دجلة في رحلة جميلة ساحرة. لكنه في العودة يصبح مهمة شاقة ثقيلة كريهة يحاول كل منا التهرب منها. إذ كان علينا سحبه عكس تيار الماء، مسافة عشرة كيلومترات. وكنا نتناوب على سحبه بالتساوي. وفي إحدى تلك الزيارات تعرفت الى (دْهام) الذي كان شهيرا يومها بأنه (البطل). قيل لي إنه قتل أحد أعمامه، ومكث في القرية دون أن يختفي، ودون أن يجرؤ شرطي من التكارتة على إلقاء القبض عليه خوفا من انتقامه. ودهام هو ابن إبراهيم الحسن (عم صدام وزوج امه) والأخ الأكبر لبرزان.
الأمر الذي لم أفهمه من تلك الزيارة هو نفور ابراهيم الحسن من صدام، ابن أخيه وابن زوجته. كان يتلقانا عدنان وأنا، برحابة وود كبيرين، لكنه لم يكن يطيق صدام. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالأخير الى الهجرة الى تكريت للسكن في منزل خاله خير الله طلفاح في الصيف، ومنزل خالته ليلى في الشتاء. أما دار ابراهيم الحسن في العوجا فليست دارا كما تعرف الدور، فهي غرفة واحدة لكل احتياجات الأسرة. هي غرفة النوم والطعام والضيوف. وفي الليل، وكنا في فصل الصيف، ننام على حصيرة خارج المنزل، صدام وعدنان وبرزان، وكان صغيرا، وأنا. كان ابراهيم الحسن شريك خير الله في زراعة قطعة أرض على شاطئ النهر في العوجا. خير الله صاحب الماكينة التي ترفع الماء من النهر لسقي الخضراوات وإبراهيم بجهده. وحين يباع الحاصل في سوق تكريت يقتسمان المردود. كانت هوايتنا الوحيدة صيد السمك. أمه صبحة كانت تشجعنا كثيرا على ذلك. خصوصا أن لصدام خبرة مبكرة في تركيب قنبلةٍ خاصة ترمى في النهر لتقتل السمك الذي يطفو على سطح الماء بعد انفجارها. كان يشتري عجينتها من مكان وفتيلتها من مكان آخر. كنا، عدنان وأنا، في العاشرة من العمر أو الحادية عشرة، وكان هو في حوالي الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. يخوض بنفسه وبجرأة عجيبة الى مدى بعيد في النهر. يشعل الفتيلة وينتظر الى أن تشب النار فيها ثم يرميها، وما هي إلا لحظات حتى يهتز الشاطئ ويتدفق الماء ويطفو السمك فنتسابق مع تيار الماء لالتقاطه. كانت تلك الصداقة باباً واسعاً لتقريعٍ شديد ومستمر من والدي الذي كان يوبخني ويؤاخذني على علاقتي المشينة، مع أهل العوجا ومع صدام بشكل خاص. كان يقول: لو لم تكن لك ميول شريرة كميـوله، ولو لم تكن (سَرسَرياً) (كلمة تركية شائعة في العراق تعني: سيئ الخلق) مثله لما ألفت رفقته. وكان يرسل ورائي من يتجسس علي. هل رافقت صدام ام لا في ذلك اليوم ? لكنني كنت متمسكا بتلك الرفقة ولم أر فيها ما يريب. صحيح أن صدام كان باردا في صداقته، وعدنان أكثر حميمية والتزاما بحدود الصداقة، إلا أنه ـ صدام ـ كان يذود عني ويتحمل المشاق أحيانا في خدمتي.

الحب الأول.. وأمنية صدام
* أحببت ذات يوم، كما يحب المراهقون، فتاة من أقاربي. وكنت أزور أهلها في الكوخ الذي كانت كل أسرة تكريتية تبنيه من أغصان الشجر وأوراقه على شاطئ دجلة في الصيف. و«دفاعا عن الشرف» تصدى لي أقاربها وأقاربي الشباب ومنعوني من زيارتها وهددوني بالضرب إن عاودت الزيارة. وحين أخبرت صدام بذلك عرض مرافقتي. وظل يرافقني الى حدود الكوخ، ثم يجلس خلفه في مكان يراه فيه الآخرون، وينتظرني ساعات تحت الشمس الحارقة بصمت، وبقينا على هذه الحال أسابيع. كنت سعيداً جدا بذلك التحدي وأنا أتمشى داخلا أو خارجا بكبرياء، وأقاربي الذين هددوني يشتعلون غيضا دون أن يجرؤ واحد منهم على مهاجمتي. وحين ملَّ صدام من اللعبة وقرر التوقف عن حمايتي توقفت أنا أيضا عن الزيارة والى الأبد. بعد ذلك انضم الى رفقتنا نبيل نجم (وكيل وزارة الخارجية العراقية حاليا) فصرنا رباعيا لا يفترق. ولو كنا في غير العراق الذي يحكمه صدام، لكان سهلا على نبيل نجم اليوم أن ينشر الورقة التاريخية النادرة التي ذكّرني بها عندما كان سفيرا لدى اليونان في أوائل الثمانينات، ووعدني بنسخة منها ولم يفعل. قال لي نبيل: في الخمسينات كنا نراجع دروسنا على الشاطئ في منطقة يقال لها القائم الكبير، فخطر لنا أن يكتب كل منا على ورقة واحدة ما يتمناه في المستقبل. تمنى نبيل أن يصبح طبيبا مشهورا، وقد تحقق له نصف حلمه، وأصبح مضمدا في مستشفى الطفل العربي في كرادة مريم. وتمنى عدنان أن يصبح عسكريا لامعا وتحقق له ما تمنى، لكنه سرعان ما هوى، وما زال سر سقوط طائرته طي الكتمان. وتمنيت أنا أن اصبح شاعرا. أما صدام فلم يجعل أمنيته مركزاً اجتماعيا أو سياسياً، كمنصب مثلا أو مهنة، بل طلب فقط سيارة (جيب) وبندقية صيد (كسرية) كما يسميها العراقيـون ودربين (ناظور). وأظنه نال ما تمنى.

أطلق النار على معلمه الكردي وخلد إلى النوم وأراد التقرب إلى فاضل الجمالي ليعينه شرطي أمن
مشكلة علاقتي بأهل العوجا حولت حياتي مع والدي الى ما يشبه الكابوس، وجعلتني أفكر جديا في البحث عن بدائل. ولعلها أيضا كانت هي السبب الحقيقي والخفي وراء الرحلة المغامرة التي قمت بها فيما بعد الى العاصمة. كان عدنان خير الله طلفاح كل عام، يقضي السنة الدراسية في بغداد، بحكم عمل والده في إحدى ضواحيها، ويعود إلينا في عطلة كل صيف. وفي عام 1957 لحق بهم صدام. فبدت لي تكريت مقفرة، وأضحت بغداد هي الحلم الأجمل من كل حلم. وقبل أن انتقل إلى بغداد نُقل الى ثانويتنا في تكريت مدرس كردي اسمه (كاكا عزيز) ومعه شقيقه (بهزاد) وهو في مثل أعمارنا. كان عزيز شابا وسيما ولكن شديد البأس، متوسط القامة يتمتع بجسد قوي. وكان من عادته، لإظهار حزمه وشدته، أن يختار أحدنا قبل أن يباشر درسه، فينهال عليه ضربا، حتى لو لم يكن هناك سبب كافٍ للعقاب. وفي أحد الأيام اختار صدام ولطمه على وجهه لطمتين بكفه، وعلى ظهره لسعتين من عصا يحملها معه باستمرار. تحمل صدام الضربات بصمت وسار الدرس بعد ذلك بهدوء، الى أن دق جرس الاستراحة. تجمعنا ساخرين حول صدام، هازئين منه ومن بطولاته المزعومة ومن صمته على ما ناله من المدرس عزيز، لكنه ظل صامتا ولم يجب بشيء. وعلم مدير الثانوية وهو من أهالي تكريت ويعرف أهلها خير المعرفة، فخاف من العاقبة، وشرح للمدرس عزيز خطورة أهل العوجا، ورجاه أن يتدارك الأمر بسرعة. وبالفعل نادى المدير على صدام ولاطفه وحاول ترطيب الأجواء، ورجاه أن يعتذر للمدرس ـ حتى وهو غير مذنب ـ إكراما للمدير ولكي ينتهي الموضوع. وبالفعل أقبل صدام على عزيز معتذرا بأدب جم، وظن الجميع أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد. كان عزيز يسكن مع أخيه في منزل متواضع يقع على آخر أطراف المدينة، في مواجهة الثانوية. وكانت المنطقة غير آهلة ومظلمة في الليل. في اليوم التالي علمنا بأن أحدا جاء راكبا على فرس وطرق باب كاكا عزيز. وحين فتح أخوه بهزاد الباب أطلق الطارق عليه عيارا ناريا وهرب. وعلمنا أيضا بأن الرصاصة أصابته في ساقه. حمل كاكا عزيز أخاه الى المستوصف لإسعافه، ثم ذهب الى الشرطة واتهم صدام بالجريمة. وحين وصل أفراد الشرطة إلى منزل ليلى الطلفاح، حيث كان صدام يقيم في تلك الأيام، لم يجدوا الفرس ولا البندقية، وكان صدام نائما في سلام. كان المنزل يقع في حي قديم ذي أزقة ضيقة لا تتسع لفرس بأي حال من الأحوال، فسجُلت القضية ضد مجهول وحزم كاكا عزيز حقائبه ورحل. بعد ذلك بمدة أخبرني صدام بأنه في تلك الليلة أعاد الفرس والبندقية الى العوجا مـع (دحّام) ابن خالته ليلى، وخلد هو الى النوم بهدوء.


يتدخل على طريقته الخاصة
* في أحد أيام صيف 1957 أرادت ليلى الطلفاح أن تجعل باحة المنزل الصغيرة إسمنتية لتتخلص من التراب والغبار ولتبدو دارها أكثر فخامة. فطلبت من صدام وعدنان ومني أن نقوم بمهمة تعبيد الباحة بالإسمنت.
تولى الصغير دحام تدبير كيسين من الإسمنت تمكن من سرقتهما بسهولة. فقد اختارت شركة (زبلن) الألمانية التي كانت تقوم بشق وتعبيد الطريق العام بين بغداد والموصل مدينة تكريت لتكون محطة وسطية لها بين بغداد والموصل وأقامت لمعداتها وجميع لوازم العمل مستودعات ضخمة في ضواحي المدينة، واختارت واحدا من أهل العوجا ليكون حاميها وحراميها في الوقت ذاته. وصادف في تلك الفترة أن قدم من الموصل صائغ اسمه محمد، واتخذ من دكان صغير مواجه لمنزل ليلى الطلفاح معرضا ومعملا لتصليح الذهب وصياغته. أعطته ليلى قطعة من الذهب مع بعض المال لصياغة قطعة مختلفة، لكن محمد الصائغ لم يف بوعده. ظل يماطلها أشهرا، ولا يعيد إليها قطعتها القديمة ولا الجديدة حتى طفح بها الكيل. وبعد أن انتهينا من تعبيد باحة المنزل نادتني الى داخل الغرفة، وبهمس، لئلا يسمع صدام، أخبرتني بالحكاية وكلفتني بالذهاب الى الصائغ والتفاهم معه ومنحه مهلة ثلاثة أيام قبل أن تلجأ الى القوة. أدرك صدام أن في الأمر سراً لا تريد خالته أن يعرفه. وحين خرجت لحق بي وحاول استدراجي لأخبره بالحقيقة فأخبرته، لكنني رجوته أن يمنحني الفرصة لحل الموضوع سلما، فإن عجزت فله أن يتدخل على طريقته. وافق على الشرط وواصلت سيري وهو الى جانبي. وما إن وصلنا الى باب الدكان حتى غافلني واندفع بسرعة البرق الى الداخل وأغلق الباب وراءه، فلم اسمع سوى صراخ محمد وتوسلاته، مناديا أهل الغيرة، صائحا: إلحقوني، سيقتلني. ولم تمض دقائق حتى خرج صدام وبيده حفنة من الذهب.


ليلة تكسرت عظام مراقب الكهرباء
أبو علي مهندس كهربائي نـُقل الى تكريت ليدير مؤسسة الكهرباء. هذا الرجل كان خطيراً في ذكائه، في رأسه جهاز كومبيوتر متنقل. وضع كل منزل في تكريت في رأسه، وأفرد له صفحة حساب، كم استهلك هذا الشهر، أو الشهر الذي قبله، وكم مصباحا فيه، وما قوة كل مصباح، وأسلاك المنزل، و موطن العطل في الخطوط أو العداد. وكان يعرف عدد مصابيح كل زقاق، وأيٌها تعطل، ومتى تم إبداله. لم يكن مسؤولا عن الجانب التقني والفني فقط، بل كان هو نفسه المحصل الذي يقرأ العدادات ويقبض ثمن الكمية المستهلكة نقدا وعلى الفور. ولكي يجعل مهمته الحسابية سليمة فقد قسم منازل المدينة في ذهنه الى دوائر، وجعل لها مواعيد ثابتة للتحصيل لا تتغير، لكنها غير متناسقة. فمثلا في أول سبت من كل شهر يفحص عدادات الحي الفلاني في غرب المدينة، وأول أحد من كل شهر، ولسبب غير معروف، يقرأ عدادات حي آخر في شرق تكريت. يسكن أبو علي وحيدا أعزب في دار صغيرة تقع خلف المدرسة الابتدائية الأولى قريبا من مركز شرطة تكريت. وفي كل ليلة يسير على قدميه ثلاثة كيلومترات لينتظر قطار بغداد ـ الموصل ليشتري منه خمرته المفضلة، ويقضي جزءا من ليله في مقهى المحطة، يشرب حتى الثمالة ثم يهبط عائدا الى منزله، وهو منتشٍ ويغني. في أحد الأيام لفت انتباهه أن استهلاك منزل خير الله طلفاح غير منطقي وغير معقول. إنه أدنى من نصف الاعتيادي. كرر قراءة العداد عدة مرات، في ثلاثة أشهر، وهو يحاول أن يمسك بسر هذا الوضع العجيب، بنظراته الفاحصة الخبيرة، دون أن يلفت نظر أهل الدار الى ما في نفسه. ثم تفتق ذهن أبو علي عن حيلة بسيطة. فقد أنتظر الشهر الرابع وجاء كعادته وقرأ وقبض وغادر. لكنه بعد أقل من ساعة عاد الى منزل خيرالله ومعه شرطي هذه المرة. لقد اكتشف أن أحدا أحدث ثقبا صغيرا خفيا في سلك الكهرباء الداخل من الخارج الى علبة العداد، وثقبا آخر في السلك الخارج من العلبة أيضا، ومرر سلكا آخر من الثقب الخارجي الى الثقب الداخلي، ليصبح في إمكانه تهريب كمية من التيار الكهربائي دون أن يسجله العداد. وكان طبيعيا أن يلقى القبض على صاحب المنزل خير الله طلفاح بتهمة سرقة المال العام. وتبين لي فيما بعد أن بطل تلك اللعبة هو صدام نفسه. وهنا تدخل الخيرون لفض المشكلة، خوفا على أبو علي الذي أحبوه واحترموه كثيرا. ثم أفهموه بأن خيرالله هو خيرالله، وأن وراءه أهل العوجا وشرورهم، والأفضل له أن يلف الموضوع ويخلي سبيل الموقوف وبسرعة. وحين أدرك أبو علي مكمن الخطر تراجع عن إفادته للشرطة، وأطلق سراح خيرالله طلفاح دون كفالة. بعد ثلاثة اشهر أو أكثر، لا أذكر بالضبط، أمرنا خيرالله بالاجتماع لديه لأمر هام، صدام وعدنان وأنا، وقال: إن المدعو أبو علي إنسان فاسق يشرب الخمرة ولا بد من عقابه. المطلوب تكسير عظامه دون إسالة قطرة من دمه، ليبقى طريح فراشه أسابيع، ورسم خطة العملية. دحام، وكان في التاسعة من عمره، يتولى من بعد الظهر بمصيادة العصافير تكسير مصابيح الطريق الذي يمر منه أبو علي عائداً ليلا الى منزله من محطة القطار. أما عدنان فيراقب من ناحية الشمال ليعطي المنفذ الوحيد، صدام، إشارة وصول الهدف أو وجود خطر طارئ. أما أنا فمن ناحية الجنوب.
وكما كان مرسوما، سمعت صوت أبو علي من بعيد منتشيا وهو يغني اغنية «ربيتك زغيرون حسن» إلا أنه سكت فجأة واعتراه الخوف حين وجد الطريق مظلما، وهو أعرف من غيره بالكهرباء. فقد أحس بأن أحدا تعمد إطفاء المصابيح كلها في الطريق. لكنه واصل سيره بصمت وحذر. ثم جاءت إشارة عدنان. وحين بلغ أبو علي نقطة الصفر المحددة هجم عليه صدام وألقاه أرضا وسد فمه وراح يدوس على أطرافه وصدره وبطنه الى أن أغمي عليه. وغادرنا مكان الجريمة بهدوء. بقي أبو علي ممددا في الزقاق حتى أول ساعات الفجر، فالتقطه المارة وحملوه الى مستوصف المدينة. رقد بعدها في فراشه قرابة شهر ثم حمل ثيابه وغادر تكريت دون رجعة.

يريد أن يكون شرطي أمن
* رافقني صدام الى جريدة «العمل» التي يصدرها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور فاضل الجمالي رئيس حزب العمل. دخلت على الصحفي محمود الجندي الذي كنت أتعرف عليه لأول مرة، وعرضت عليه نسخة من اول ديوان شعر لي ورجوته الكتابة عن الديوان. لكنه نهض ودخل غرفة مجاورة وعاد ليطلب مني مقابلة (الدكتور). مكث صدام في غرفة محمود. وحين دخلت وجدت فاضل الجمالي مبتسما وفي يده الديوان، ويمازحني قائلا يا حرامي. خفت وخجلت من هذه التهمة، فبادرني قائلا: كيف تثبت لي أنك كاتب هذا الشعر? هدأت قليلا وطلبت منه أن يسألني عن أية قصيدة من قصائد الديوان، بحرها، موضوعها، مناسبتها ـ مثلا ـ لأثبت له أنني كاتب هذا الديوان. قال: لا، أريدك أن تكتب بيتين عن جريدة «العمل»، وأعطاني ورقة وقلما. هممت بالكتابة، لكنني قلت له إن الشاعر المحترم يا دكتور لا يكتب شعره كما كان يعمل المتكسبون في العصر الجاهلي. سكت وانتظر. وفي دقائق أعدت إليه الورقة وعليها بيتان من الشعر يبدو أنه لم يحبهما، لكنه ابتسم وصدّق بأنني صاحب هذا الديوان، وتمنى لي التوفيق ونادى محمود الجندي وطلب منه الاهتمام بي. كان صدام قد أحس بالملل والقلق بعد أن طالت جلستي في مكتب الدكتور. ونحن هابطان على السلم الضيق المظلم في طريقنا الى شارع المتنبي سألت صدام: هل تعلم من هو الدكتور الذي قابلته؟
قال: لا، من؟
قلت: فاضل الجمالي.
سألني: كيف كان معك؟
قلت: كان لطيفا وراقيا وكريما جدا. أخبرته بحكاية الاختبار الذي خضته. فجأة توقف صدام وقال: ليتك تعيدني إليه لأطلب منه أن يقبلني في حزبه.
ضحكت وقلت: ولماذا تريد الانضمام إلى حزبه؟
قال: لأن في إمكانه أن يساعدني ويأمر بتعييني في الأمن.
سخرت من الفكرة، وواصلت سيري في شارع المتنبي وهو يتبعني ويلح علي. لم يخطر في بال أحدنا أنه سيصبح المالك الوحيد لـ(الحزب الوحيد في عموم العراق).

قضية الحاج سعدون

في منتصف تموز 1958 كنت في بغداد حين حدثت الثورة، ورأيت حملة إسقاط تمثال البريطاني الذي احتل بغداد وهزم العثمانيين الجنرال مود، والمظاهرات الصاخبة التي عمت بغداد تأييداً للثورة. وزرت خيرالله طلفاح في منزله ورأيته متحمسا في ثنائه على بعض قادة الثورة. لكن صدام لم يخبرني بأنه عازم على المجيء الى تكريت خلال عطلة الصيف.
بعدها بشهرين تلقيت رسالة جميلة ومفاجئة من ناشر في بغداد يعرض علي فيها إعادة طبع الديوان، للاستفادة من الأمر الصادر من وزارة المعارف لجميع إدارات المدارس باقتنائه. وفي الأيام التي كنت أرتب فيها أموري للسفر الى بغداد فاجأني صدام بزيارة، وأبلغني بأنه واصل للتو من بغداد في زيارة شوق لأهله، ولن يمكث طويلا. فاتفقنا على أن نسافر معا الى العاصمة. كان الوقت أول ساعات المساء. طلب مني مرافقته في جولة في المدينة، نسهر بعدها كعادتنا القديمة في احد المقاهي. و قمنا بجولة ممتعة على مقاهي تكريت كلها. ثم استقر بنا المطاف في مقهى يقع على الطريق العام المعبّد الوحيد في تكريت الذي يربط بغداد والموصل والشهير باسم (المبلط). هب صاحب المقهى (عبد)، وهو أحد أقارب صدام ومعروف بأنه شيوعي، ليستقبل صدام بالأحضان. وكان شائعا عن تلك المقهى أنها مقهى الشيوعيين، وأن أغلب روادَها الدائمين من الشيوعيين وأبناء العوجا، وأشهرُهم نائب الضابط المتقاعد في القوة الجوية الحاج سعدون الناصري، وكان يقال إنه من قادة التنظيم الشيوعي في تكريت. وعلى الرغم من برودة العلاقة بينهما، نهض بحماس أهل العوجا لبعضهم واحتضن صدام وغمره بالقبلات. وأصر سعدون على أن يشاركنا الطاولة ويمضي معنا السهرة. في تلك السهرة سأل صدام سعدون إن كان يحمل مالا، فبادر سعدون وأخرج كيس نقوده، فأختار صدام منها دينارين فقط لا غير على مرأى من الجميع. غادرنا المقهى في حوالي العاشرة ليلا، وبقي سعدون يكمل السهرة. ورحنا، صدام وأنا، نتجول في أزقة تكريت. وهنا ينبغي إيضاح شيء مهم في هذا الخصوص. إن الأزقة التي تؤدي الى دارنا ودار ليلى طلفاح (خالة صدام) والتي كان ينوي المبيت فيها تلك الليلة، كانت ضيقة جدا ومظلمة تماما. وصلت دارنا أنا أولا وودعني صدام وأكمل سيره الى منزل خالته. وفي الصباح الباكر صحوت على صوت والدتي وهي ترتجف من الخوف وتسألني: ماذا فعلت? وتخبرني بأن الشرطة في الباب يسألون عني. نزلت على عجل، فوجدت شرطيين أخذاني معهما الى مركز الشرطة، وكل ما قالاه لي في الطريق هو أن الحاج سعدون قتل وأنني الشاهد الوحيد. ثم علمت بأن سعدون نطق باسم صدام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تنفع شهادتي أحداً، لا السلطة ولا الشيوعيين ولا صدام حسين. فالذي رأيته ورويته عن السهرة وعن الدينارين اللذين استلفهما صدام من سعدون، وتأكيدي أنني دخلت منزلنا أولا ثم واصل هو سيره، لم ينفع في نفي التهمة عنه ولا في تأكيدها. وألقي القبض على صدام في نفس اليوم، وتم ترحيله الى بغداد بعد يومين. ثم علمت بأن خيرالله وأخاه لطيف طلفاح وابنه عدنان قد ألقي القبض عليهم أيضا وأودعوا موقف السراي. كانت هناك قناعة لدى الجميع بأن صدام هو القاتل. وعلمت بعد ذلك بمدة طويلة، من أحد أفراد العائلة بأن القتيل كان قد رفع مذكرة حزبية يلتمس فيها طرد خير الله طلفاح من مديرية المعارف، باعتباره أحد «الرجعيين أعداء الثورة والزعيم». وكانت ثورة تموز قد عينت خير الله مديرا لمعارف لواء بغـداد بعد توحيد مديريتي معارف الكرخ والرصافة، ولم يمكث في الوظيفة سوى شهرين أو أقل، أحيل بعدها على التقاعد. وتمكن خير الله من الحصول من أحد أقاربه المنتمين الى التنظيم الشيوعي في تكريت على مضمون المذكرة التي رفعها ابن عمومته سعدون. وفي نظر خيرالله والعشيرة أن الثأر أمر لازم، حتى لو كان من ابن عم، ومن عشيرة البيكات نفسها. وبعد سنوات وتحديداً في عام 1974 دعا الرئيس احمد حسن البكر، الى مجلس عشائري حضره نائبه صدام، وخاله خيرالله ونجله عدنان وزوج أمه ابراهيم الحسن وأولاده برزان ووطبان وسبعاوي وأولاد عمومة صدام، كما حضره أشقاء سعدون الناصري وأقاربه، وسويت قضية مقتل الحاج سعدون عن طريق الفصل العشائري، وقيل أن صدام دفع (دية) رمزية كما تقتضي التقاليد العشائرية.


في شبابه ضاق بالسياسة والحزبية... وبعد فشله في الدراسة ضاقت به سبل العمل فاتخذ زعامة الحزب ورئاسة الدولة وظيفة دائمة
بداية علاقة صدام بالحزب. صدام لم يكن في وارد التفكير بالانتماء إلى الحزب (حزب البعث) قبل .1959 فقد كان لغاية 1958 يضيق بنا، نبيل نجم وعدنان خير الله ونزار الناصري وأنا، حين نتحدث عن الحزب والسياسة وهمومها. وأستطيع أيضا أن أحدد بدقة تاريخ دخوله إليه في أوائل عام 1959، وهو ابن الثالثة والعشرين، نصيرا متدربا. ثم كُلف، حتى قبل أن يصل إلى درجة نصير، بأن يشارك في أخطر عملية مصيرية يقدم عليها الحزب، وهي محاولة اغتيال الحاكم الأوحد عبد الكريم قاسم. وعملية خطيرة من هذا النوع تفترض السرية الكاملة، وأن يكون القائمون بها على درجة عالية جدا من الثقة بالحزب، ومن ثقة الحزب بهم كذلك. وفجأة وجد (النصير المتدرب) صدام التكريتي نفسه بين أعضاء أعلى قيادةٍ حزبية. يجالسهم، يأكل معهم، يقتسم معهم شقة صغيرة، فيسمعهم ويراهم ويتأملهم عن قرب، وقد تحلل الواحد منهم من قناع القيادة وتبسط وتصرف بتلقائية، فظهرت عيوبه الإنسانية، خصوصا حين يكون يافعا لم يتجاوز العشرينات إلا بقليل. في تلك الأيام القليلة، وفي الأيام التي تلت فشل خطة الاغتيال والهرب إلى سورية والإقامة فيها في شقق حزبية مع القياديين أنفسهم الذين عاش معهم أيام التحضير للعملية، ومع قياديين آخرين هربوا خوفا من العقاب، كان طبيعيا أن يتعرف على خلافات وصراعات هؤلاء. هنا أدرك صدام هشاشة أغلب أولئك القادة وانحراف أخلاق بعضهم وجبن البعض الآخر منهم. لكنه أدرك أهمية هذه الرفقة، باعتبارها الفرصة الذهبية الوحيدة التي تنعش احساسه بقيمته وأهميته وبخطأ خاله خير الله طلفاح الذي اعتبره فاشلا لا يصلح لشيء أكثر من الخدمة في منزل الخال، ورعاية النساء في غيابه. لقد حسبها صدام بوضوح : ماذا لو تمكن حزب البعث من أن يقتنص السلطة في العراق؟ إنه بكل تأكيد سيحصل على مركز مرموق في الدولة. وما ضاعف في خياله الأمل أن أعضاء القيادة الذين أصبحوا رفاقه وأصحابه، سيحكمون العراق ذات يوم، الأمر الذي يضمن له مقعدا في الحكومة، وهو أقصى ما يحلم به، بعد أن ترك دراسته ويئس من الحصول على الوظيفة بالطرق الاعتيادية المألوفة. وفي عام 1963 تمكن أعضاء القيادة القطرية الجديدة من اقتناص السلطة. وكان المؤتمر القطري الذي تمخضت عنه هذه القيادة قد أدان محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في أغسطس (آب) 1960، واعتبرها خرقا لعقيدة الحزب. فلم يجد صدام، العائد من القاهرة في مارس ( آذار) 1963، التعويض الذي كان يحلم به من الرفاق الذين يعتبرهم أدنى منه شجاعة، وأقل أحقية في تبوؤ المراكز المهمة في الحزب والسلطة. فقد أهملوه ورفيقه أحمد طه العزوز، إذ تم تعيينهما عضوين في المكتب الفلاحي التابع للحزب، في شقة صغيرة ضيقة في مبنى بسيط مقابل مبنى الإذاعة. وهي وظيفة تافهة وهامشية إلى أقصى حد. وكان صدام يشكو من ذلك ويعلن عداءه للقيادة الجديدة ونقمته عليها.
وجـد ضالتــه في الحزب.


بسرعة وسهولة أدرك صدام أن أعضاء القيادة الذين اقترب منهم وعرفهم عن كثب، ليسوا أعضاءَ قيادة مثلما كان يظن، بل إنهم في الأغلب مجموعة من الفاشلين في الدراسة، أو المطرودين من المدارس لأسباب مختلفة. وفي ضوء هذا الاكتشاف وجد أن عليه أن ينغمس في هذه الأجواء إلى هامة رأسه. حتى أن جميع المذكرات والكتب والرسائل المنشورة تؤكد أنه كان موجودا وفاعلا في جميع الصراعات، العلنية والمخفية، الشفاهية واليدوية، الصغيرة والكبيرة، على حد سواء، إلى أن انهار الحزب تماما. والمضحك أنه كان مشاركاً في مؤسسات الحرس القومي ولجان تحقيقاته الشهيرة. إلا أنه كان، على الجانب الآخر، يمد جسورا مع خصومه، وفي مقدمتهم ابن عمه أحمد حسن البكر وكتلته من العسكريين التكارتة أمثال رشيد مصلح وطاهر يحيى وحردان التكريتي وحماد شهاب وذياب العلكاوي وغيرهم من الذين أسقطوا الحزب وسلموه لعبد السلام عارف، في ما أطلق عليه البعثيون اسم «ردة تشرين» عام .1963 ويقال إن صدام سافر إلى دمشق لإقناع ميشيل عفلق بحل قيادة فرع بغداد من جماعة الحرس القومي، فلم يتفق عفلق معه في الرأي فقط، بل عينه سكرتيرا ثم أمينا لقيادة قطرية مؤقتة في فبراير (شباط) .1964 وخلال المؤتمر السادس للحزب وقف صدام بقوة ضد علي صالح السعدي والى جانب ميشيل عفلق، الذي أوصى في عام 1964 ـ وربما لهذا السبب ـ بترقيته إلى الدور الأعلى في ��لحزب. (19) هذا معناه أن عفلق كان في حاجة إلى أي مساند لزعامته. وقد رأى أن الساحة خلت إلى حد كبير من المريدين والأتباع، فرأى في الشيخلي وصدام عكازتيه المناسبتين، مؤقتا على الأقل، في مواجهة المتمردين عليه وعلى مكانته التاريخية. وكالعادة، أخذ كل فريق يغلف نفسه بالشعارات والأفكار والألوان، ليبرر انشقاقه وليقنع نفسه قبل غيره بأنه الأحق في البقاء. فجماعة الحرس القومي، (بقايا أعوان علي صالح السعدي) أسست ما أسمته بالقيادة القطرية لحزب البعث اليساري. في حين أن الفريق المقابل، وهو جناح عفلق (المؤقت) ظهر إلى الوجود بعد تسلل عبد الكريم الشيخلي من سورية إلى العراق في أوائل مايو (ايار) 1964، حاملا معه تفويضا من القيادة القومية (عفلق).



وبناء على اتصالاته تم تشكيل القيادة القطرية من :
عبد الكريم الشيخلي ـ أمين سر (قتله صدام فيما بعد) صدام التكريتي حسن العامري (سممه صدام فيما بعد) محمد صبري الحديثي (أعدمه صدام فيما بعد بتهمة التآمر) صفاء الفلكي (هارب حاليا يقيم في هولندا) ثم انيطت بصدام مسؤولية المكتب العسكري المركزي ومكتب بغداد العسكري وجهاز حنين وجهاز الضباط الاحتياط.



يتحدى زعيمه علنا

* كانت تلك الفترة من أكثر الفترات التي كنا نلتقي فيها. كان ينتظرني في مكتب الجمعيات الفلاحية إلى أن أنتهي من عملي في الإذاعة ثم نلتقي. فنبقى في الشقة ذاتها ونطلب غداءنا أو عشاءنا أو نذهب إلى أي مكان آخر. كنت أستطيع أن أتدبر له إذنا بدخول الإذاعة لزيارتي وانتظاري إلى ان أنتهي من العمل، لكنه كان يتفادى ذلك، خصوصا أن علي صالح السعدي (أمين سر الحزب ونائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام) كان يتردد أحيانا على الإذاعة، وصدام لا يريد أن يلتقي به. وقد حضرت ذات مرة لقاء ساخنا بينهما بالصدفة. ففي حفل كان مقاما في قاعة الخلد ببغداد برعاية السعدي، كنت المذيع المكلف بنقل فقراته إذاعيا وتلفزيونيا وعريفه أيضا. وبعد أن قدمت مطربا، توقعت أن لا ينتهي قبل ساعة على أقل تقدير، أردت أن أستريح وأن أتمشى قليلا في حدائق القاعة. فوجئت بصدام وأحمد طه العزوز يقفان على جانب سلم مدخل القاعة، يتسكعان ويتفرجان على الداخلين والخارجين. وقفت أسلم عليهما وأتبادل معهما الحديث، فإذا بعلي صالح السعدي يخرج من القاعة في تلك اللحظة مغادرا قبل انتهاء الحفل الذي يرعاه. وحين شاهدنا استدار واقترب منا مؤنبا ومعنفا ومتهما إيانا بقلة الأدب والتحرش بالنساء. أما أنا فقد اعتذرت منه، وهممت بالعودة الى داخل القاعة. أما صدام فقد تصدى بهدوء بالغ لأمين عام حزبه علي السعدي وفاجأه متحديا: إذا لم تخرس وتنقلع من هنا فسوف أهينك على مرأىً من حراسك وبقية الناس. صمت علي بضع ثوان أظنه حسبها مع نفسه ففضل تلافي الفضيحة، ثم استدار وغادر المكان دون كلام. بعدها عاتبت صدام لأنه أشركني في موقف التحدي والمشاكسة وعرضني للفصل من وظيفتي. فرد علي ساخرا مني ومن القادة (الجبناء) الذين أخشى أذاهم. وكان لا يتوقف عن السخرية من علي السعدي ومن أعضاء آخرين في القيادة وينعتهم بالجبن والنفاق. لذلك كان طبيعيا ومنطقيا أن ينخرط صدام، وعلى الفور، في أي عمل ينال من تلك القيادة. وقد شارك بفاعلية وحماس في الانقلاب الذي ما زال البعثيون يعتبرونه عملا خيانيا ويطلقون عليه اسم (ردة تشرين)، الذي قام به عبد السلام عارف والعسكريون البعثيون طاهر يحيى ورشيد مصلح واحمد حسن البكر وحردان التكريتي ضد قيادة الحزب والحرس القومي.

بلغ الصراع درجة عالية من التوتر، وبدأت عناصر حزبية وعسكرية تتسلل ليلا إلى القصر الجمهوري للاجتماع بالبكر وعارف وطاهر يحيى وتنقل لهم ما كان يدور في الاجتماعات والمؤتمرات الحزبية وما تطالب به قواعد الحزب وقياداته الدنيا. وكان في رأس هؤلاء المخبرين صدام حسين التكريتي وطه العزوز وطارق عزيز وحسن الحاج ودّاي العطية وآخرون. في يوم 15 اكتوبر (تشرين الأول) عام 1963 تم اعتقال أعضاء المكتب الفلاحي وصدام أحدهم ـ كما أسلفت ـ باعتبارهم أعداء الحرس القومي. وبعد ثلاثة أيام، عينه حردان التكريتي مشرفا سياسيا على الإذاعة، كما عين ابن خاله عدنان خير الله طلفاح آمراً لقوة حماية الإذاعة. وبعد أن سيطرت قوات الانقلابيين على دار الإذاعة بدأ صدام التكريتي وطارق عزيز يوجهان البرامج ويذيعان النداءات باسم القيادة القومية مطالبين البعثيين بالكف عن المقاومة، والتعاون مع الحكم الجديد.


كان يزورني هو وعدنان خيرالله في غرفة المذيعين يوميا ويقضيان معنا ساعات تعرفا خلالها على بعض المذيعين وعلى أسلوب عملهم. وكان صدام يتطوع فيطلب الطعام للموجودين من مطعم قريب من الإذاعة. إلا أنه لم يمكث طويلا في الإذاعة. فجأة غاب هو وانقطع عدنان عن الزيارة اليومية للمذيعين. علمنا بعد ذلك بأن عبد السلام عارف قد انقلب على حردان وأحمد حسن البكر وطردهما من السلطة، الأمر الذي لم يترك لصدام خياراً سوى الهرب والاختفاء. أما عدنان فقد نقل إلى موقع آخر.

خال الحزب والثورة
* كانت علاقتي بالحاج خير الله طلفاح الذي سأكنيه هنا بـ(الحاج) امتن من علاقتي بولده عدنان وابن اخته صدام. فمنذ البداية، وبالتحديد من اوساط الخمسينات كنت معه اكثر انفتاحا ومكاشفة ومزاحا. وكان يثق بي اكثر من كثيرين من اقرب اقربائه. وقد توثقت علاقتي به اكثر منذ بدأت العمل في الاذاعة والتلفزيون. وازدادت وثوقا بعد ان تسلم ابن عمه احمد حسن البكر وابن اخته صدام حسين وابنه عدنان السلطة، واصبح هو محافظ بغداد. وبسبب نزوعه الشديد الى الشهرة وطموحه الزائد الى الحاق نفسه بالمفكرين والمربين والمؤرخين والمنظرين السياسيين الاستراتيجيين فقد وجد في نشاطي الاعلامي نافذة مناسبة يحقق من خلالها ما يزيده بريقا ولمعانا. كان الحاج مثل الكثيرين ضعيفا امام اغراء الشاشة الفضية الصغيرة. كانت لي معه صولات وجولات على الشاشة يذكر العراقيون اغلبها الى اليوم. ولم تتوقف الندوات الى ان اتصل بي رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ومنعني رسميا من استضافة الحاج. كان، مرتين او ثلاثا في كل اسبوع، يطلب مني زيارته في مكتبه. وفي كل مرة ازوره فيها يمنع دخول احد عليه، ويعطل اشغال الناس، ويترك زواره الكثيرين مركونين لدى نزار النقيب مدير مكتبه، ويبدأ بقراءة عشرات الصفحات من كتاباته طالبا رأيي فيها او أن اصحح له بعض اخطائها اللغوية، وكنت احول اقناعه باعطائي الاوراق لاقرأها بنفسي، الا انه كان يرفض ويقول ممازحا: لكي تتجاوز في قراءتك المتعجلة سطورا وربما صفحات. فكان علي ان اغفو ـ ذهنيا ـ ولا اسمع الا بعضا قليلا مما يقرأ علي. واحيانا كثيرة كان الموظفون يغادرون المبنى، ونتناول غداءنا في مكتبه، ليكمل القراءة. كان طامحا الى ان يتبوأ مركز رئيس وزراء العراق. ووعدني اكثر من مرة بالغاء الشرطة العراقية واقتطاع فرق كاملة من الجيش وجعلها شرطة العراق، لان الشرطة المتوارثة من العهود السابقة ـ في رأيه ـ فاسدة مرتشية، من السهل ان تبيع البلد واهله بأبخس الاثمان.


وللأمانة اقول ان الحاج لم يكن راضيا عن اداء ابن اخته صدام حسين منذ البداية. حتى قبل ان يتسلم منصب (النائب).
دخلت عليه مرة فوجدته عصبيا يكيل الشتائم لشخص مجهول لا يذكر اسمه. راح يخاطبني قائلا: «هذا (البُشْت) اي (السفيه الارعن او الولد الشرير او مجهول الاصل) سيفسد علينا كل شيء». طبعا لم اسأله عن المقصود، لانني اعرفه جيدا، وتصنعت الانصات. ورن جرس الهاتف ورفع الحاج سماعته. وفجأة رقت كلماته وعاد اكثر حنانا ومودة وهو يرد على المتحدث «اهلا خالو، حاضر خالو، امرك خالو». (كلمة خالو تقال لابن الاخت تحببا)، ثم وضع سماعة الهاتف، والتفت الي وقال «انه الُبشْت نفسه».
وفي الاشهر الاولى التي اعقبت نجاح اهل العوجا في اقتناص الحكم دخلت على مدير مكتب الحاج، فهب على الفور رجل اسمه نعمان عبد الله الصميدعي ليصافحني ويطلب مساعدتي في التوسط له بمقابلة الحاج لامر هام جدا. كان نعمان ـ حسب علمي ـ مديرا لشرطة العاصمة، وله اخ اخر اسمه عبد الموجود يعمل مديرا لشرطة النجدة، واخ ثالث اسمه عبد المالك يعمل بائع قماش في تكريت. وكان ابناء عبد اللطيف الصميدعي هؤلاء من شركاء التكارتة واطيبهم واكثرهم تقوى ومخافة من الله. لم يسمع عنهم التكارتة الا الخير والذكر الحسن. اخبرني نعمان، على عجل وباختصار، بانه واخاه عبد الموجود طردا من الخدمة فجأة دون اية اسباب. وبعد مدة علما بان الطرد جاء بأمر من الحاج خير الله طلفاح نفسه. لذا جاء ليقابله ويلتمس منه العدل رحمة بأسرتيهما. وعلمت بان الدافع الى قرار الطرد هو ان بلدية تكريت فرزت قبل انقلاب 17 ـ 30 تموز (يوليو) 1968 مجموعة من قطع الاراضي السكنية في شمال المدينة، لانشاء حي جديد واعلنت عن بيع تلك القطع. فبيعت كلها ما عدا واحدة حجزها صدام حسين دون ان يدفع ثمنها وينجز الاجراءات الرسمية اللازمة لتسجيلها، حسب ما كان متعارفا عليه. ثم اختفى نهائيا ولا احد يعرف شيئا عن مصيره. فعادت بلدية تكريت واعلنت من جديد عن رغبتها في بيع القطعة المتبقية، ويشاء الحظ العاثر ان يذهب الاخ الثالث (عبد الملك) ويشتري قطعة الارض (المشؤومة) من البلدية. دخلت على الحاج واخبرته بان نعمان ينتظر السماح بلقائه منذ ثلاث ساعات فقال: «اعرف ذلك وانا الذي طلبت من مدير مكتبي ان يتركه (مركونا) الى ان اطلبه. وحين رجوته بالسماح له بالدخول امر بادخاله، وكنت اظن انه سيستمع اليه ويفهم الحكاية فيأمر بالغاء قرار الطرد. لكنه فور دخوله انهال عليه بالاهانات من كل نوع ومن كل وزن، زاعما بأنهم من اراذل اهالي تكريت وجبنائها، طالبا مني ان اشهد وان اؤيد شتائمه، وانا العارف تماما بانه يفتري. تماسك نعمان، وراح يقص على الحاج حكاية الارض، وهو واقف، لم يسمح له بالجلوس. قال له: يا حاج، ان قطعة الارض التي اشتراها اخي لم تكن ملكا لاحد، ولم يكن معروفا من الذي حجزها او اراد شراءها. ثم ان البلدية اعلنت عن الرغبة في بيعها فاشتراها اخي. هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى فانني واخي عبد الموجود نعمل ونقيم في بغداد ولا نعلم بما يفعله اخونا في تكريت. فلماذا لا تذهبون وتسترجعون منه الارض وتتركونا مع اسرنا نعيش في سلام، او على الاقل احيلونا على التقاعد لنحصل على راتب تقاعدي نستطيع به ان نعيل اولادنا. لم تنفع المرافعة، بل زادت شتائم الحاج وسخريته الجارحة. فما كان من نعمان الا ان تعوذ بالله من الشيطان ولاذ بالصمت وخرج مكسور الخاطر، وانا ساكت لا ادري ماذا افعل.


اللقــاء الأخيــر
في شتاء عام 1973 طلبني الصحاف لأمر هام، وحين ذهبت لأراه وجدت على مدخل مكتبه رجالا مدججين بالسلاح لا تستقر عيونهم على مكان، يراقبون كل شيء. فهمت على الفور أن مسؤولا غير عادي يقوم بزيارتنا ذلك اليوم. دخلت عليه كعادتي فإذا بي وجها لوجه وعينا بعين مع صدام حسين. تراجعت وأردت أن أغلق الباب ورائي، لكنه دعاني إلى الدخول. وأنا في طريقي إليه كنت أفكر بالصيغة التي أسلم بها عليه. هل أناديه (أبو عدي)؟، قد لا يحب أن أظهر أمام الصحاف تلك الإلفة التي كانت بيننا. هل أناديه (السيد النائب) ؟ قد يظنني أنافقه. هل أناديه: أستاذ صدام؟ ربما سيظن أنني أتهرب من مناداته بـ (سيدي) ترفعاً وكبرياء؟ كل هذا دار في رأسي في تلك الثواني القليلة وأنا في طريقي من باب مكتب الصحاف إلى حيث صدام يقف ويمد يده استعدادا للمصافحة. ألهمني الله بأن أسلم عليه بصيغة وسط لا تغضبه ولا تحرجني. قلت: السلام عليكم. فصافحني وجلس وجلست. كان الصحاف يجلس على أحد الكرسيين الموضوعين أمام مكتبه. فنهض وتنازل لي عن كرسيه ومضى يسحب كرسيا ثالثا. فجأة بدأ صدام يسألني عن الحال والعمل والأولاد والأهل في تكريت. كان يحادثني وعيناه تدوران يمينا وشمالا. وكلما التقتا بعينيَّ يبعدهما بسرعة. كانت دقائق ثقيلة مملة طويلة. نهضت واستأذنت بالانصراف بحجة أنني لا أريد أن أشغله أكثر، وقد يكون لديه حديث خاص مع الصحاف. وخرجت. كنت في غاية الارتباك. فقد أحسست بما لا يقبل الشك بأنه لا يطيقني ولا يريد رؤيتي. ثم تداعت في نفسي ذكريات الماضي كلها. أيام الجوع والفراغ والشقاء. وبدأت تتسارع في نفسي صور رفاق طفولته المقربين وقد بدأوا يتساقطون الواحد بعد الآخر، في ظروف وأسباب متفرقة. حوادث السيارات واغتيالات بأيدي مجهولين. وتأكدت من أنه لا يريد أن يلتقي بواحد من رفاق طفولته ممن يذكره بماضيه وبحكاياته الكثيرة التي لا تليق بمن أصبح ثاني رجل في الدولة ويخطط ليصبح الأول والوحيد. في تلك الساعة بالذات قررت أن أرحل عن العراق بأي ثمن وعن أي طريق. كان الصديق الشاعر الرقيق شاذل طاقة وكيلا لوزير الخارجية. ذهبت فورا للقائه في مكتبه وأخبرته بما حدث، ورجوته بأن يساعدني على الخروج. غضب مني وقال : إنك واهم. وساوسك هذه لا مبرر لها. إن أبا عدي زهرة الحزب وشباب الثورة. قلت له: أترك لكم هذه الزهرة، ودعوني أخرج من هنا على قدمين. حين وجدني مصرا وعدني خيرا، واقترح علي أن أوفد للعمل في السفارة العراقية في بيروت مديرا للمركز الثقافي المزمع افتتاحه هناك، ومستشارا صحفيا فيه. ولم يخلف وعده. وصدر أمر نقلي من الإذاعة إلى ديوان وزارة الإعلام، ومنه إلى الخدمة الخارجية. وتسلمت جواز السفر الديبلوماسي وبطاقة الطائرة وتم كل شيء بسرعة وهدوء. قبل موعد السفر بأيام مررت على الصحاف لوداعه وتسليم ما في عهدتي من أمور. فوجدته يضحك بخبث. وكنت أعرف أن ضحكته تلك تخفي خبرا غير سار. سألته عما يضحكه فاعتذر وقال: لا أريد أن أكون أنا من يبشرك، دع غيري يفعل ذلك. هنا تأكدت من أن شيئا في غاية السوء قد وقع. وحين ألححت عليه قال: يبدو أنك عائد إلينا. فقد ألغي أمر نقلك إلى بيروت والى الوزارة. لكنه لم يخبرني بمن ألغى الأمر ولماذا. زعم بأنه لا يعلم. وذهــبت إلى وزير إعلامنا (حامد الجبوري) فأنكر معرفته. فطلبت منه إجازة أسبوعين أقضيها خارج العراق للراحة والاستجمام، وأقنعته بأنني متعب ومتوتر ولا أستطيع العودة إلى العمل الآن. ووافق في النهاية. أخذت موافقته ونزلت بها على مدير الإدارة والذاتية في الوزارة الصديق (سعدي محمد صالح). سألني عن موعد المغادرة، فحددت له الموعد بعد يومين. وعاد وسأل عن موعد العودة، فقلت له إنه واضح أمامك من مدة الإجازة. أي أنني سأعود إليكم في الأسبوع الثالث من كانون الثاني (يناير). فابتسم ابتسامة خبيثة حميمة وسألني: من أي عام ؟ وهكذا كان. خرجت وامتدت الاسبوعان اياهما من اول عام 1974 الى اليوم. لم ينتهيا بعد.



عن " الشرق الأوسط "

10/03/2003

No comments: